محاضرة السيد محمد عامر في مؤسسة التراث في برلين بمناسبة ولادة الامام الحسن عليه السلام

    0
    38721

    15 شهر رمضان 1438هـ


    القى سماحة السيد محمد عامر محاضرة في مؤسسة التراث في برلين حول فترة إمامة الامام الحسن عليه السلام وهذ نصها.

    قضية صلح الإمام الحسن (ع) مع معاوية تعد من أشد القضايا غموضاً في تاريخ أهل البيت (ع) من جهة وفي تاريخ العراق الإسلامي من جهة أخرى .

    فالقراءة الأولية لمصادر التاريخ المتوفرة يخرج منها القارئ بانطباعين سلبيين :

    • أن العراقيين الأوائل الذين عاصروا علياً والحسن والحسين عليهم السلام ، وأهل الكوفة خاصة ، لم يكونوا (خوش أوادم) ، كانوا متفرقين متخاذلين ، طالما تمنى أمير المؤمنين فراقهم .. بل كان بعضهم يفكر بتسليم الحسن ع حياً إلى معاوية
    • ومن لا تربطه بالإمام الحسن (ع) رابطة الاعتقاد بإمامته وعصمته ، يرى بأنه (ع) قد باع الخلافة بدراهم من أجل شهواته ، وأنه شخصية غير جديرة بأن تكون ابنا لعلي (ع) .. وغير ذلك من الهذر الظالم .

    ونحن إذا بحثنا في موضوع بهذه الأهمية بحثاً عميقاً كما يليق بالموضوع .. بعد مرور قرابة أربعة عشر قرناً ، نجد أن هناك مؤلفات كثيرة قد سطرت فيه .. لكن حيل بيننا وبين الوقوف عليها .. بالتلف أو بالإتلاف .. ومنها كتاب :

    • صلح الحسن عليه السلام : عبد الرحمن بن كثير الهاشمي (مولى بني العباس ، عاصر الإمام الصادق)
    • قيام الحسن عليه السلام : هشام بن محمد بن السائب الكلبي (204 هـ)
    • أخبار الحسن عليه السلام ووفاته : الهيثم بن عدي الثعلبي (207 هـ)
    • قيام الحسن عليه السلام : إبراهيم بن محمد بن سعيد .. بن مسعود الثقفي (283 هـ)
    • صلح الحسن ومعاوية : أحمد بن محمد بن سعيد .. السبيعي الهمداني (333 هـ)

    ونظائرها كثيرة لا تكاد تحصى . وهذه الكتب وغيرها تجدونها مذكورة ضمن مؤلفات أصحابها في تراجمهم في كتب الرجال المعروفة .. كفهرست ابن النديم والنجاشي وغيرهما .

    وأما الكتب المعاصرة ، فإن كتاب (صلح الحسن ع) للشيخ المحقق راضي آل ياسين – صدر عام 1952 – يعد أشهر، وربما أفضل كتاب معاصر في الموضوع .. مع ما فيه من مجانبة للحق فيما يخص أهل الكوفة .. تحت ضغط الأخبار الموضوعة التي استهدفتهم بالتشويه والتي امتلأت بها المصادر التاريخية

    وبإرجاع الحقائق إلى تسلسلها الصحيح .. وذلك بالاستعانة بقرائن الأحوال ، وبالشواهد المتواجدة في طيات المصادر المتوفرة .. يمكننا استخلاص بعض الحقائق في الموضوع .

    روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن أبي سعيد .. قال : قلت للحسن بن علي بن إبي طالب عليه السلام : يابن رسول الله .. لم داهنت معاوية وصالحته ؟

    قال ع : يا أبا سعيد .. علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، أولئك كفار بالتنزيل معاوية وأصحابه كفار بالتأويل .

    يعترض البعض على كلمة صلح هنا قائلين : إن الحسن (ع) لم يصالح بل هادن .. وهو اعتراض لا وجه له .. لأن الهدنة في اللغة تعني الصلح (لسان العرب: هادنه مهادنة : صالحه .. وتقال للصلح بعد القتال)

    ومعنى ذلك أن السبب الموجب للصلحين واحد ، مما يستلزم وحدة الخلفيات التي سبقت الصلح والظروف الموجبة له .. ثم وحدة النتائج المترتبة .. وهو ما سوف نسعى ببيانه هنا ..

    إن صلح الحديبية قد أسس لإفهام الناس أن الحرب ليست هي الوسيلة الأساسية لحل المشكلات .. وأن الصلح قد يكون هو مفتاح طريق الهداية .. لذلك أراد النبي (ص) من الصلح تحقيق الأمان في الجزيرة العربية ، وفضح إعلام قريش التي كانت تدعي أنها تعمل على حماية البيت الحرام وزواره ، وأن محمداً لا يحترم البيت الحرام وأهله .. فقد تعرض لقوافلهم التي أسسها جده هاشم في رحلة الشتاء والصيف .. وأخافها .. وقد كانت العرب في الجاهلية تحترمها وتحرسها احتراماً لسدنة البيت الحرام ..

    وبالصلح عرفت العرب أن قريشاً هي التي تصد عن البيت الحرام وليس محمداً .. واختلط المسلمون مع الناس .. ونقلوا صوراً رائعة من سيرة النبي (ص) وهديه .. مما كان سببا في دخول الكثير من العرب في الإسلام .. ومن ثم سمى القرآن الكريم الصلح مع ما يحفه من تنازل بـ “الفتح المبين” .

    والأمر نفسه تكرر مع (قريش الأبناء) بقيادة معاوية .. لما تخندقوا في الشام وملأوها بالأكاذيب عن علي ع وكونه يطلب الملك بالحرب وسفك الدماء ، وأنه أفسد في دين محمد (ص) .. إلى غيرها من التفاهات .. ويجيئ الصلح بشروط الحسن فاضحاً معاوية .. وفاتحاً طريق الهداية للإمامة الإلهية يحمل هو وشيعته أخبارها .. ويحدثون بها أهل الشام  .. خاصة الكوفيون من شيعته .. مدة عشر سنوات من الأمان .. لإقامة الحجة التي أمر الله بها .. ومن ثم فلا يبعد أن يسمى صلح الحسن بالفتح المبين . وهو المناسب لقوله عليه السلام (علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة النبي لقريش)

    إن قراءة الأخبار بخصوص أهل الكوفة تكشف انقسامها إلى قادحة ومادحة .. لذا ينبغي الترجيح بينها بالمرجحات العلمية المعمول بها عند تعارض الأخبار .. وبها يتبين وهن الأخبار القادحة وترجيح الأخبار المادحة .. وذلك بما يلي :

    • أن الأخبار التي تتضمن مدح أهل الكوفة وأهل العراق هي من مرويات الخاصة في مصادر الشيعة ، بينما تعود الأخبار التي تتضمن ذم أهل الكوفة إلى مصادر العامة ورواتها معروفون بولائهم لخلفاء الجور من العباسيين .
    • معارضة الكثير من الأخبار بحقيقة الأمان خلال العشر سنوات الأولى من الصلح .. حيث لم يروع شيعي واحد في أثنائها .. حتى شهادة الإمام الحسن (ع) .
    • أن العباسيين بعد قضائهم على ثورة الحسنيين في الحجاز والعراق ، عمدوا إلى تسقيطهم .. بتشويه صورة جدهم الإمام الحسن (ع) .. فوضعوا الأخبار بأنه باع الخلافة بالمال ، كما وضعوا الأخبار بأن الكوفيين تفرقوا عن الحسن (ع) كما خذلوا أباه أمير المؤمنين (ع) .. بل ووضعوا الأحاديث عنه (ع) تؤكد ذلك .

    المصادر التي وصلت إلينا عن صلح الحسن (ع) تم تدوينها في العصر العباسي .. ولكن الرواة كلهم كانوا ممن عاش العصرين .. أمثال :

    معمر ابن راشد اليماني (154 هـ) ، وعبيد الله بن أبي زياد الرصافي (158 هـ) ، وعوانة ابن الحكم (158 هـ) وكان يضع الأخبار لبني أمية كما نصت كتب الرجال ، ويونس الأيلي (160 هـ) ، وسفيان بن عيينة (198 هـ) وقبلهم محمد بن شهاب الزهري الذي كان يضع الأخبار لبني أمية كذلك ..

    وقصة صلح الإمام الحسن في رواية هؤلاء تعكس الرؤية الأموية ، وأن معاوية هو الذي بادر بالصلح مقابل أموال يغدقها عليه كما في رواية البخاري عن ابن عيينة (اعرضا عليه .. أي المال) .. واعتمدها الذهبي وابن كثير .. واستنبطوا منها رأفة معاوية بالمسلمين وحسن تدبيره للملك .

    ثم بنى العباسيون على ما أسسه الإعلام الأموي .. وذلك بعد خروج الحسنيين عليهم .. وأضافوا إلى ذلك تسقيط الكوفة التي كانت معقلا لأهل البيت وفيها مؤيدون للحسنيين ، وقد خط أبو جعفر الدوانيقي هذا المنهج في خطبته :

    (.. ثم قام بعده الحسن ابن علي .. فوالله ما كان برجل .. عرضت عليه الأموال فقبلها .. ودس إليه معاوية إني أجعلك وليّ عهدي .. فخلع نفسه وانسلخ له مما كان فيه .. وسلمه إليه .. وأقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ويطلق غداً أخرى .. فلم يزل كذلك حتى مات على فراشه ..)

    وأما عن الكوفيين .. فقال : (.. ثم قام من بعده الحسين ابن عليّ .. فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة ، أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن .. أهل هذه المدِرة السوء – وأشار إلى الكوفة – فوالله ما هي لي بحرب فأحاربها ، ولا هي لي بسلم فأسالمها .. فرق الله بيني وبينها .. فخذلوه وأبرأوا أنفسهم منه .. فأسلموه حتى قتل ..)

    ولما قتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن المثنى عام 145 ، أمر بأن يطاف برأسه بالكوفة .. وخطب قائلاً:

    (يا أهل الكوفة .. عليكم لعنة الله .. وعلى بلد أنتم فيه .. سبئية .. خشبية – إلى أن قال – للعجب لبني أمية وصبرهم عليكم .. كيف لم يقتلوا مقاتلتكم ويسبوا ذراريكم ويخربوا منازلكم ؟ .. أما والله يا أهل المدرة الخبيثة لو بقيت لكم لأذلنكم.)

    وهو باعتباره خليفة المسلمين .. قد وجه علماء السلاطين بكلامه هذا ألى التسابق في وضع الأخبار في ذم العراقيين والتعريض بالإمام الحسن وبصلحه .

    أما حقيقة الحسن (ع) .. فهو ثاني الأئمة الهداة .. ممن اصطفاهم الله عز وجل للمباهلة .. أحد أصحاب الكساء وهم خيرة الخلق .. يصفه صادق آل محمد بأنه : (.. أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم .. كان إذا حج حج ماشياً .. وربما مشى حافياً .. إذا ذكر الموت بكى .. وإذا ذكر القبر بكى .. وإذا ذكر البعث والنشور بكى .. وإذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربه عز وجل ..)

    وقال واصل ابن عطاء : (كان الحسن بن علي عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك)

    وروى ابن عساكر وابن كثير والمزي عن عمير بن إسحاق : (ما تكلم عندي أحد كان أحب إلي إذا تكلم ألا يسكت من الحسن بن علي ، وما سمعت منه كلمة فحش قط إلا مرة .. فإنه كان بين حسين بن علي وعمرو بن عثمان خصومة في أرض فعرض الحسين أمرا له لم يرضه عمرو .. فقال الحسن : فليس له عندنا إلا ما رغم أنفه .. قال : فهذا أشد كلمة فحش سمعتها منه قط .)

    وروى الواقدي وابن سعد وابن كثير وابن عساكر وغيرهم عن ثعلبة بن أبي مالك وإبي جعفر : (بكى على الحسن بمكة والمدينة سبعاً النساء والصبيان والرجال .. وفي رواية : مكث الناس يبكون على الحسن بن علي سبعاً ما تقوم الأسواق.)

    وقال محمد بن إسحاق : (ما بلغ أحد من الشرف بعد رسول الله ما بلغ الحسن ابن علي .. ونزل عن راحلته في طريق مكة فمشى .. فما من خلق الله أحد إلا نزل حتى سعد بن أبي وقاص نزل ومشى إلى جنبه . )

    وعن صلحه .. يقول الإمام الباقر (ع) : (والله للذي صنعه الحسن بن علي كان خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس والقمر .)

    وهذه الصيغة تشير إلى أن الصلح كان من سنخ الهداية التي يقول فيها النبي الأعظم (ص) لعلي (ع) : “.. لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت .. ولك ولاؤه يا علي”

    ولكن للأسف نجد أكثر الباحثين من الشيعة يسلّمون بأن صلح الحسن (ع) إنما انطلق من واقع منهار للكوفيين ، بل ومن عدم قدرته على توفير الأمان لنفسه .. وأنه تعرض للاغتيال .. ونحو ذلك .. مما لم يتحقق ثبوته .. ولا سبيل لإثباته .

    بل وأطبقوا على أن معاوية أعلن عن نقضه للشروط لما دخل الكوفة وأخذ البيعة من أهلها والحسن (ع) بينهم .

    ولم يلتفتوا إلى أن هذه الروايات متعارضة مع روايات أخرى .. تبين رؤية أخرى عن حقيقة أهل الكوفة :

    منها ما رواه ابن السائب وأبو الفرج الأصفهاني وغيرهما عن عوانة ابن الحكم  وغيره أنه لما قدم معاوية المدينة ودخل عليه ابن الزبير (عام 44) قال له معاوية : ألا تعجب من الحسن ابن علي  وتثاقله عني – إلى أن قال ابن الزبير – : والله لو شاء الحسن أن يضربك بمائة ألف سيف لفعل ، ولأهل العراق أبر به من أم الحُوار بحُوارها ..) .. وروى في معناه أيضاً المدائني والبلاذري وغيرهم ..

    ويشهد له أيضاً ما رواه ابن بكار وابن عبد ربه وابن طيفور وغيرهم قول معاوية للزرقاء بنت عدي وقد استضافها وحاورها في علي عليه السلام : (والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته).

    وما رواه البلاذري عن عوانة : أن علياً (ع) كتب إلى قيس ابن سعد بن عبادة – عامله على أذربيجان – : (أما بعد .. فاستعمل على عملك عبيد الله ابن شبيل الأحمسي وأقبل فإنه قد اجتمع ملأ المسلمين .. وحسنت طاعتهم .. وانقادت لي جماعتهم ..)

    وروى ابن حجر في فتح الباري 12/53 : (.. وأخرج الطبري بسند صحيح عن يونس ابن زيد عن الزهري قال : جعل علي على مقدمة أهل العراق قيس بن سعد بن عبادة .. وكانوا أربعين ألفاً بايعوه على الموت فقتل عليّ .. فبايعوا الحسن بن علي بالخلافة)

    وروى ابن عبد ربه وابن كثير : قدم معاوية المدينة أول حجة حجها (44 هـ) فتوجه إلى دار عثمان .. فلما دنا إلى باب الدار صاحت عائشة بنت عثمان وندبت أباها . فقال لها : يا بنت أخي إن الناس قد أعطونا سلطاننا .. فأظهرنا لهم حلماً تحته غضب .. وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد .. فبعناهم هذا بهذا .. وباعونا هذا بهذا .. فإن أعطيناهم غير ما اشتروا منا شحوا علينا بحقنا وغمطناهم بحقهم .. ومع كل إنسان منهم شيعته وهو يرى مكان شيعته .. فإن نكثناهم نكثوا بنا .. ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا ؟ ولأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس .

    وهذه الرواية تدل على أن معاوية إلى سنة 44 هـ لم يكن قد غدر بشروطه .. لمكان الحسن (ع) وشيعته .

    ويشهد لذلك أيضاً ما رواه ابن عبد ربه .. قال : لما مات الحسن بن علي حج معاوية .. فدخل الدينة وأراد أن يلعن علياً على منبر رسول الله .. فقيل له إن هاهنا سعد بن أبي وقاص .. ولا نراه يرضى بهذا .. فابعث إليه وخذ رأيه .. فأرسل إليه وذكر له ذلك .. فقال : إن فعلت لأخرجن من المسجد ، ثم لا أعود إليه . فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد .. فلما مات لعنه على المنبر .. وكتب إلى عماله أن يلعنوه على المنابر ففعلوا . والمعلوم أن وفاة سعد كانت بعد وفاة الإمام الحسن .. وفي السنة نفسها (51 هـ)

    كما أنه من المعلوم أن زياد بن أبيه – وهو الذي أذاق الشيعة أصناف الجور – قد ولاّه معاوية الكوفة بعد وفاة المغيرة بن شعبة في شعبان سنة 50 / 51 هـ  على قولين، وقد توفي الحسن (ع) في صفر أو في ربيع الأول سنة 51 هـ .

    ومما يؤكد أن غدر معاوية بشروطه وأهمها الأمان ولعن عليّ (ع) قد تم بعد شهادة الحسن (ع) .. أننا حين تتبعنا تاريخ من قتلهم زياد بأمر معاوية أو دفنهم أحياء أو نفاهم أو شردهم من شيعة علي (ع) .. كحجر وأصحابه .. وعبد الرحمن بن حسان الذي دفنه حياً .. وعمرو بن الحمق الخزاعي وزوجته .. وتسيير خمسين ألفاً من الكوفة والبصرة بعيالاتهم .. وجدنا ذلك كله قد جرى بعد وفاة الحسن (ع) أي في سنة 51 هـ .

    لقد كان معاوية يعلم حق العلم أن علياً ومن بعده ولده الحسن عليهما السلام لديه مشروعه في إحياء سنة النبي (ص) التي كانت قد تعطلت .. وقد تبناه أهل العراق .. كما تبنى أهل الشام مشروع معاوية في السير على نهج عثمان والشيخين .

    لذلك طلب معاوية بعد التحكيم من أمير المؤمنين أن توقف الحرب وأن يكون لعلي حكم العراق والبلاد التي بايعته .. وأن يكون هو حاكماً على الشام والبلاد التي بايعته .. وهو ما رفضه أمير المؤمنين .. وقد عرض نفس الأمر على الحسن ، وقد سعى بالضغط على الحسن بإرسال الغارات على أطراف الكوفة لعله يقبل الصلح معه .

    رفض الحسن طلب معاوية .. فهو يؤدي إلى تكريس الانشقاق في الأمة .. وضياع أهل الشام في الجهالة بمعتقدهم الخاطئ وحجبهم عن طريق الهداية . ولكنه فاجأ معاوية بما لم يدر في خلده .. بل لم يكن تكوينه الجشع .. ورغبته العمياء للسلطة وأصوله الجاهلية .. لتسمح له أن يفكر في ردها .. وسلك الحسن (ع) نهج جده مع قريش التي – لِحَميّـتها الجاهلية – لم يدر في خلدها أن يقدم محمد على مصالحتها بعد انتصاره عليها في معركة الخندق .

    لقد تحقق للحسن عليه السلام بالصلح أن اطلع الشاميون من خلال اختلاطهم بالعراقيين على شئ من علم أهل البيت ، واطلعوا على حقيقة علي (ع) ونهجه وخلقه وعبادته .. وسائر كمالاته .. وتعريفهم بمقام الإمامة الإلهية .. وأن علياً هو من أحيا سنة النبي (ص) كما هو واضح في قضية حج التمتع وغيرها .. وأن معاوية والخلفاء الثلاثة كانوا يصدون عن سنة النبي .

    لقد كان أكثر المسلمين حتى زمن عثمان (من هم دون الأربعين) لا يعرفون من الإسلام إلا سيرة الشيخين بحيث صار الدين هو كتاب الله وسيرة الشيخين بل وسيرة الخليفة من قريش .. إذ قد منع تدوين الحديث .. وحرمت متعة الحج .. ومتعة النساء وعوقب من يفعلها .. وأسند الوعظ إلى كعب الأحبار .. وانتشرت الطبقية في العطاء .. وحتى في الفروج بمنع غير العربي من التزوج بالعربية .. وأرجع مقام إبراهيم إلى مكانه في الجاهلية . وقد حذر النبي (ص) أمته كثيراً من الفتن المقبلة عليهم بعد موته .. وبين أن علياً مع الحق وأنه هو الهادي وأنه مع القرآن ..

    حتى تمايز المسلمون إلى فئتين : فئة تتعبد بسنة النبي .. وفئة تتعبد بسيرة الشيخين في صلاتها وحجها .. وقد استجابت الكوفة لعلي وارتبطت مصيرياً بنصرة أهل بيته  وبمشروع النبوة في مقابل مشروع قريش وبني أمية ..

    روى الكشي عن عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله يقول : كان مع أمير المؤمنين خمسة نفر من قريش .. وكانت ثلاث عشرة قبيلة منها مع معاوية) ..

    والخمسة هم محمد بن أبي بكر – أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس – . وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال. وجعدة بن هبيرة المخزومي .. وكان أمير المؤمنين (ع) خاله .. وهو الذي قال له عتبة بن أبي سفيان إن ما لك في هذه الشدة في الحرب من قبل خالك .. فقال له جعدة : لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك . ومحمد ابن أبي حذيفة بن عتبة ابن ربيعة . وأبو الربيع ابن أبي العاص بن الربيع صهر النبي

    أما أهل العراق .. فقد أخلصوا في مؤازرة إمام الهدى .. وقد شهد لهم إمامهم عليه السلام بذلك .. فقال :

    (.. وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا .. من أهل العراق على الآخرة ..) رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج 15/81 والدينوري في الأخبار الطوال 278 ونصر ابن مزاحم في وقعة صفين 471

    وقال عليه السلام : (.. الكوفة كنز الإيمان وحجة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء . والذي نفسي بيده لينصرن الله بأهلها في شرق الأرض كما انتصر بالحجاز ..) معجم البلدان للحموي 7/160

    وعن سعيد بن الوليد الهجري عن أبيه قال : قال علي وهو بالكوفة : (.. ما أشد بلايا الكوفة .. لا تسبوا أهل الكوفة فوالله إن فيهم لمصابيح هدى وأوتاد ذكر ومتاع إلى حين .. والله ليدقن الله بهم جناح الكفر لا ينجبر أبداً .. إن مكة حرم إبراهيم والمدينة حرم رسول الله (ص) .. والكوفة حرمي .. ما من مؤمن إلا وهو من أهل الكوفة أو هواه لينزع إليها .. إن الأوتاد من أبناء الكوفة .. الخ.) ابن عساكر تاريخ دمشق 1/219

    وتمثل الإمام الحسن حين رحل عن الكوفة بعد الصلح بهذه الكلمة الرائعة التي رواها ابن أبي الحديد 16/215 ، والبلاذري في إنساب الأشراف 3/364 .. والتي تبين حسن ثقته بالعراقيين .. قال :

    وما عن قِلىً فارقت دار معاشري      همو حوزتي والمانعون ذماري

    وقد عرف ذلك للعراقيين خصمهم العنيد ابن الزبير حين قال لمعاوية : (.. والله لو شاء الحسن أن يضربك بمئة ألف سيف لفعل .. ولأهلُ العراق أبرُّ به من أم الحُوار بحُوارها)

    وعرف لهم معاوية ذلك .. حين انطلق أخيارهم ورموزهم من الرجال والنساء بفقه في الدين .. وجرأة في الحوار مع الحاكم الجائر .. ووفاء لعلي (ع) منقطع النظير .. يروون لأهل الشام ولغيرهم سيرة عليّ المشرقة .. حين قال معاوية شاهداً لهم بوفائهم لعلي (ع) : (.. هيهات يا أهل العراق .. لقد فقهكم عليّ .. فلن تطاقوا ..)

    وقال : (.. لقد لمَظَكم على الجرأة على السلطان)

    وقال : (والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب إليّ من حبكم له في حياته)

    لقد كان معاوية يعلم أن قبوله لشروط الحسن معناه ظهور أمر الإمامة الإلهية لعلي في الشام وأنه امتداد لرسول الله في سيرته وأن كل من خالف علياً كان على باطل .

    وكان الحسن عليه السلام يعلم أن معاوية لا يمكنه إلا أن يقبل بشروطه .. فقد أعمى بصيرته الملك وسال لعابه .. وقرر أن يستجيب للحسن ثم يغدر به بعد حين .. وهو ما يعلمه الحسن (ع) يقيناً .. فهو يعلم دهاء معاوية وشيطنته .. وأنه لأجل الدنيا سوف يسعى لمداراة أهل العراق وكسب جانبهم .. وهو ما سوف يحقق أهداف الحسن (ع) قبل أن يظهر غدره .

    وهاهو معاوية يترحم على عليّ حين يسمع وصفه من شيعته ويقرهم على ما وصفوه به من كمالات .. كما جاء في أمر ضرار .. في بلاط معاوية .. على محضر من أهل الشام .. الذين شهدوا من معاوية بعد هذا الوصف نزف دموعه على لحيته .. وقوله : رحم الله أبا الحسن ، كان والله كذلك .

    وسمعوا جواب ضرار حين سأله معاوية عن مدى حزنه على عليّ عليه السلام : (.. حزن من ذبح وحيدها في حجرها ..) شرح النهج 18/331

    لقد كان قصارى ما يتمناه معاوية أن يوقف الحسن الحرب وأن يبقى على الشام ومن بايعه .. أما أن يتنازل الحسن عليه السلام عن العراق بشروط .. فهو ما لم يكن يتوقعه معاوية ولا أحد من رجاله قط . وبالطبع حاول أن يعدل بعض الشروط ولكن الحسن كان حاسما .. فوافق على الفور .

    قال ابن عبد البر في الاستيعاب : (.. فكتب إلى معاوية بخبره أنه يصير الأمر إليه على أن يشترط عليه ألا يطلب أحداً من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشئ كان في ايام أبيه .. فأجابه معاوية .. وكاد يطير فرحاً .. إلا أنه قال : أما عشرة أنفس فلا أؤمنهم .. فرفض الحسن ذلك .. فبعث إليه معاوية حينئذ برِقٍّ أبيض .. وقال : أكتب ما شئت فيه وأنا التزمه).

    روى الطبراني في الكبير 11/32 والهيثمي في مجمع الزوائد 8/121 عن ابن عباس : (كنا مع رسول الله (ص) في سفر فسمع رجلين يتغنيان وأحدهما يجيب الآخر .. فقال النبي ص انظروا من هما .. قال : فقالو معاوية وعمرو بن العاص، فرفع رسول الله يديه فقال : اللهم أركسهما رَكساً ، ودُعَّهما في النار دَعّاً) وأخرجه أحمد في المسند 4/421 ولكنه رفع اسميهما وقال : (فلان وفلان) .

    وصلى الله على محمد وآل محمد

    اترك تعليق