16 ذي الخحة 1438هـ
تيِّمُناً بقرب حلول ذكرى عيد الغدير الاغر، افتتح ممثل المرجعية العليا في اوربا سماحة السيد مرتضى الكمشيري حفظه الله مدرسة العالم الرباني السيد مرتضى الكشميري (قدس) المتوفى ١٣٢٣هـ وذلك عصر يوم الجمعة ١٦ ذي الحجة ١٤٣٨هـ الموافق ٨ ايلول٢٠١٧م، بحضور جمع من العلماء والأساتذة ورؤساء المعاهد والجامعات وطلبة العلوم الدينية، بكلمة هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين
السادة الحضور، أصحابَ السماحة العلماءَ الأعلام، الفضلاءَ الكرام، السادة أساتذةَ الجامعات، الإخوة طلاب العلم.. نرحب بكم جميعاً، ونشكركم على الحضور والمشاركة.. وبعد،
فكما أن الحكمة الإلهية والأسرار الربانية اقتضت أن تكون الغري رمساً ومثوى لمولى الموحدين وأمير المؤمنين عليه سلام الله والملائكة أجمعين؛ فقد ورد في الأثر أنه أوصى ولديه الإمامين السبطين الحسن والحسين عليهما السلام أن يحملا مؤخر السرير إذا ارتفع المقدم، ويتوجها به حيث يتوجه، وأن يضعاه حيثما يوضع المقدم.. فلمّا زحزحا السرير وكشفا التراب وجدا قبراً محفوراً ولحداً مشقوقاً وساحةً (وفي بعض النسخ: ساجة) منقورة، مكتوب عليها بالسريانية: هذا ما ادخره نوح النبي للعبد الطاهر المطهر علي بن أبي طالب.
فكانت نهاية حكايةٍ بدأت في بيت الله الحرام في الكعبة المشرفة.
صلى الإله على جسم تضمنه قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحقَ لا يبغي به بدلاً فصار بالحق والإيمان مقرونا
وقد روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق (ع) أنه قال: (قبرٌ ما أتاه مكروب قط ولا ملهوف إلا فرج الله عنه)..
فكما أن الحكمة الإلهية اقتضت ذلك، كذلك استدعت تلك الحكمة والأسرار أن تكون هذه البقعة الطاهرة مشرقاً لشمس العلم والمعرفة والثقافة، وكعبةً لطلاب الحق والحقيقة، والحصنَ المنيع للدفاع عن شريعة سيد المرسلين وحفظ معالم الدين. فها هي النجف الأشرف كانت وما زالت عاصمة التشيع ومركز المراجع العظام وملاذ المشتغلين وقبلة المحصلين ومهوى أفئدة المتعلمين.
لا نراها صدفةً؛ بل تخطيطٌ إلهي وإرادة ربانية أن يلتقي أبو حمزة الثمالي زين العابدين وسيد الساجدين ويتعرف عليه في مسجد الكوفة، فيصطحبه الإمام سلام الله عليه لزيارة مرقد جده أمير المؤمنين (ع)، وبعد ذلك صار يكرر الزيارة ويعاودها حتى اتخذ من جوار الإمام (ع) مركزاً لبثّ علوم أهل البيت (ع) ونشر معارفهم.. فعن داود الرقي في حديثه عن وافد أهل خراسان وأنه ورد الكوفة وزار قبر أمير المؤمنين (ع) ورأى في ناحيةٍ رجلاً حوله جماعة، فلما فرغ من زيارته قصدهم فوجدهم شيعة فقهاء يسمعون، فقال: من الشيخ؟ قالوا: هو أبو حمزة الثمالي. قال: فبينا نحن جلوس إذ أقبل أعرابي فقال: جئتُ من المدينة وقد مات جعفر بن محمد (ع).
إن هذا النص يشير إلى بداية اتخاذ هذه البقعة الطاهرة مدرسة دينية وحوزة علمية. ولا يجود علينا التأريخ بذكر التفاصيل، وعمّا إذا كانت تلك الحركة العلمية اتصلت أو توقفت.. إلى أن أجبرت الفتن الطائفية في بغداد الشيخ الطوسي أعلى الله مقامه المتوفى سنة 460 هـ أن يرحل عنها ويهبط النجف الأشرف ليقضي فيها العقد الأخير من حياته، ويلتحق به تلامذته، وتتخذ النجف الأشرف رونقاً جديداً باحتضانها شيخ الطائفة وفقيه العترة، ذلك العلمَ المسدَّدَ والعالمَ المؤيدَ، الذي ما زالت مؤلفاته في التفسير والحديث والرجال والفقه والأصول والعقائد والأدعية تشكل أيقونةَ مكتبة المذهب الإمامي، ومفخرة التراث المتبقي مما أتت عليه نوازل الدهر وأحداثه.
وحمل الراية من بعده تلامذته جيلاً كاملاً حتى أرهقتهم صعوبة المناخ وقسوة الطبيعة، فانتقلت الحوزة العلمية إلى الحلة الفيحاء قروناً عديدة، ومرت النجف في تلك الفترة بفتور في أداء هذا الدور.. إلى أن رحل إليها سيد الفقاهة وعلم التقى وبحر العلوم المتوفى 1212 هـ فنشطت مرة أخرى وانتعشت وشمرت عن ساعديها لتستمر وتنجب الفحول من الفقهاء والفطاحل، وتثمر أعمق الآراء والنظريات في شتى العلوم الدينية، وتشكل الرحم الطاهرة المطهرة لصدور الفتوى التي تمثل الوظيفة الشرعية للمكلف التي توصله إلى طاعة الله ومرضاته، والتي تعلمه أداء الفرائض وصحة المعاملات وتبين له الأحكام من الحلال والحرام من شريعة سيد الأنام.. تلك الفتوى التي تصون الفرد والمجتمع من شراك الكافرين والمنافقين ومكائد أعداء الدين وتحفظ الحرمات وتحمي البلاد والعباد من المفسدين.. تلك الفتوى التي هزمت الاحتلال البريطاني في عشرينات القرن الماضي وأبادت دواعش الوقت الحاضر.. تلك الفتوى التي أربكت سياسة كبار قادة العالم وأفشلت مخططات دوائر ومراكز الغرب والشرق، وأعادت إلى أذهانهم أن لدى المسلمين قوة قاهرة لو التفوا حولها.. ألا وهي مرجعيتهم الدينية.
فنسأل الله تعالى أن يحفظ مراجعنا العظام وأن يحرسهم بعينه التي لا تنام، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا للمساهمة في تنشيط هذه الحوزة بعدما أصابها الحرمان من الخدمات وإنشاء المراكز والمقارّ؛ بسبب حيلولة النظام البائد دون ذلك، ومنعه أهل الخير والإحسان من مد يد العون في تشييد الأبنية وإقامة العمارات، وردعِهِ عن كل ما يصب في خدمة طلاب العلم والحوزة العلمية، وصدّه عن سبيل الله.
وما هذه المدرسة إلا خطوة في هذا الطريق فبعد سقوط النظام البائد تشهد حوزة النجف توافداً من داخل العراق وخارجه بأعداد لا تستوعبها المدارس الموجودة.. فالحاجة ماسة إلى إنشاء المزيد من المدارس والمراكز، لتكون مأوى للمتوجهين لطلب العلم والتفقه في الدين.
ومن جانب آخر، نطمح في أن تشكل هذه المدرسة حلاً لمعضلة أخرى كنا وما زلنا نعاني منها خلال عملنا التبليغي خلال فترة تزيد على ربع قرن، وهي تلبية حاجة إخواننا المؤمنين من الجاليات التي تقطن بلاد الغرب من المبلغين. فهناك الموانع القانونية والإجراءات المشددة في تزويدهم بتأشيرات الدخول إلى بلاد الغرب التي تعرقل من تلبية تلك الحاجة. وهناك أيضاً عدم إحاطة المبلغين الوافدين بثقافة تلك الجاليات؛ مما يحول دون تفاعلهم مع المبلّغ، وخاصة الشباب منهم واليافعين.. فرأينا أن حل المشكلة على المدى البعيد يستدعي أن نحث إخواننا المؤمنين هناك على تشجيع أبنائهم للانخراط في طلب العلم والتوجه إلى النجف الأشرف ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
وبقيت الفكرة رهينة الذهن وفي أفق النفس حتى قيض الله تعالى بعض المحسنين وأهل الخير والبر من المؤمنين ليتكفل بنفقات البناء والتأثيث. وعرضتُ الفكرة على سيدنا سماحة المرجع الأعلى حفظه الله فلاقت منه الترحيب والمباركة فتوكلنا على الله تعالى وشرعنا بالعمل، ونشكره تعالى على توفيقه لإتمامه وإنجازه.
ولا يفوتني أن أنوه بأن اختيار اسم المدرسة كان بأمر من سماحته؛ حيث إنه يرى ضرورة إحياء ذكر العلماء السابقين- كما فعل مد ظله في بناء مدرسة باسم الشيخ البلاغي و الشيخ نجم الأئمة و الشيخ الحلي و المدرسة المظفرية -؛رعايةً لحقهم وتشجيعاً للشباب على اقتفاء آثارهم والاقتداء بهم في التضحية بالغالي والنفيس من أجل خدمة شريعة سيد المرسلين، والقيام بدور الهداية الذي هو مهمة الأنبياء والأوصياء، والتي ندب إليها الأئمة (ع) شيعتهم أيام غيبتهم؛ فعن الإمام العسكري (ع): (ألا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا وهَدَى الجاهل بشريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين