28 ذو القعدة 1441هـ
عزا ممثل المرجعية العليا في أوروبا سماحة السيد مرتضى الكشميري المسلمين بذكرى شهادة الامام الجواد التاسع من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) والتي كانت في آخر شهر ذي القعدة 220 هـ عن عمر يناهز 25 سنة ، وبهذا فهو أصغر الائمة سنا يوم وفاته واصغرهم حينذاك عمرا يوم تقلده منصب الامامة وعمره 9 سنوات، وكانت هذه الظاهرة مثار نقاش واختلاف بين اتباع مدرسة اهل البيت مما حدى بكبار علماء المذهب آنذاك من مختلف الاقطار والامصار الإسلامية أن يتوجهوا إلى المدينة لمعرفة أهليته لهذا المنصب الإلهي.
وعندما عقد الاجتماع وطرحت الاسئلة المختلفة عليه، خرج الجميع بقناعة تامة بأنه لا يختلف عن ابائه (عليهم السلام) بكل المواصفات المطلوبة في الإمام حتى وإن صغر سنه.
ولبيان هذه الحقيقة نقول التالي:
إن عقيدة النص على الإمام عند الشيعة مبنية على حقيقة كون الإمامة منصباً من المناصب الإلهيّة التي يمنحها الله تعالى لأشخاص معيّنين ومحدّدين وضمن مواصفات خاصّة.
والإعلام بذلك يتمّ عن طريق الوحي الإلهيّ النازل على قلب النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله حصراً، وبدون أيّ تدخّل بشريّ، فله تعالى أن يختار من عباده من يشاء ويصطفي من بينهم من يحبّ، فهو سبحانه أعلم بمصالح عباده وأخبر بأحوالهم وما يحتاجون إليه ((اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ))، وليس للعبد إلّا أن يذعن ويعترف ويطيع ويسلّم.
وقد كان هذا الأمر معقوداً في نواصي الشيعة بدءاً من زمان أمير المؤمنين عليه السلام ، حتّى آخر الأئمّة عليهم السلام، يعرفون بالقول به ويمتازون به من غيرهم، وقد ملئت به رواياتهم وأحاديثهم وكتبهم، وعلى هذا جرت سيرتهم وكان ديدنهم.
فعن عمرو بن الأشعث قال: سمعت أبا عبد الله، عليه السلام يقول (أترون الموصي منّا يوصي إلى من يريد؟! لا والله، ولكن عهد من الله ورسوله (ص) لرجل فرجل حتّى ينتهي الأمر إلى صاحبه) وعن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله، عليه السلام ، قال (إنّ الإمامة عهد من الله عزّ وجلّ معهود لرجال مسمّين، ليس للإمام أن يزويها عن الذي يكون من بعده).
وحيث كانت الإمامة منصباً وعهداً إلهيّاً ، فلربّما تفرّدت بأمر لم يعهده البشر فيما بينهم، كما أوضح القرآن الكريم ذلك في حقّ النبوّة التي هي منصب وعهد إلهيّ، فقد نصّ تعالى في كتابه الكريم أنّه أعطاها لشرائح مختلفة من حيث العمر والسنّ، فقال تعالى في حقّ عيسى عليه السلام ((قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا))، وقال في حقّ يحيى (ع) ((وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)) ، وقال في حقّ يوسف (ع) ((وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا))، وقال تعالى ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي))، وقد تكرّرت هذه الصورة القرآنيّة أيضاً مع أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، فكانت ظاهرة الإمامة المبكّرة التي تولّى فيها بعض الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام ، منصب الإمامة وتصدّوا لها وهم في سنّ مبكّرة، لم تتجاوز العشرالسنين، وهو عمر صغير بالنسبة إلى ما ألفته الأمّة من أعمار حكامها بل والغالب من حياة الأنبياء والأئمّة عليهم السلام، ممّا استدعى أن يقع هذا الأمر موضعاً للتساؤل والاستفهام والحاجة إلى الإجابة الموضوعيّة.
وعمدة الشبهة والتساؤل المطروح هو: كيف يكون الإمام والحجّة لله على خلقه صبيّاً صغيراً؟!
الإمامة المبكرة في روايات الأئمّة عليهم السلام:
لقد تصدّت الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام للإجابة عن هذا الأمر ضمن المفهوم القرآنيّ الذي تقدّمت الإشارة إليه، فعن صفوان بن يحيى قال (قلت للرضا عليه السلام: قد كنّا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر عليه السلام ، فكنت تقول: يهب الله لي غلاماً، فقد وهبه الله لك، فأقرّ عيوننا، فلا أرانا الله يومك فإن كان كون فإلى من؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر عليه السلام ، وهو قائم بين يديه، فقلت: جُعلت فداك، هذا ابن ثلاث سنين؟! فقال: (وما يضرّه من ذلك؟ فقد قام عيسى عليه السلام ، بالحجّة وهو ابن ثلاث سنين).
وعن الخيرانيّ، عن أبيه قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن عليه السلام ، بخراسان فقال له قائل: يا سيّدي، إن كان كون فإلى من؟ قال: (إلى أبي جعفر ابني”، فكأنّ القائل استصغر سنّ أبي جعفر عليه السلام ، فقال أبو الحسن عليه السلام : “إنّ الله تبارك وتعالى، بعث عيسى ابن مريم رسولاً نبيّاً، صاحب شريعة مبتدأة في أصغر من السنّ الذي فيه أبو جعفر عليه السلام).
وعن عليّ بن أسباط قال: (خرج عليه السلام عليّ فنظرت إلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فبينا أنا كذلك حتّى قعد وقال: (يا عليّ إنّ الله احتجّ في الإمامة بمثل ما احتجّ في النبوّة، فقال ((وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)) قال ((وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ))،((وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)) ، فقد يجوز أن يؤتى الحكم (الحكمة) صبيّاً ويجوز أن يعطيها وهو ابن أربعين سنة).
وعن بعضهم، عن أبي جعفر الثاني عليه السلام قال: قلت له: إنّهم يقولون في حداثة سنّك، فقال (إنّ الله تعالى أوحى إلى داود أن يستخلف سليمان وهو صبيّ يرعى الغنم، فأنكر ذلك عبّاد بني إسرائيل وعلماؤهم، فأوحى الله إلى داود عليه السلام ، أن خذ عصا المتكلّمين وعصا سليمان واجعلها في بيت واختم عليها بخواتيم القوم فإذا كان من الغد، فمن كانت عصاه قد أورقت وأثمرت فهو الخليفة، فأخبرهم داود، فقالوا: قد رضينا وسلّمنا).
وعن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه قال: قال عليّ بن حسّان لأبي جعفر عليه السلام: يا سيّدي، إنّ الناس ينكرون عليك حداثة سنّك، فقال: “وما ينكرون من ذلك قول الله عزّ وجلّ؟ لقد قال الله عزّ وجلّ لنبيّه (ص) ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي))، فوالله ما تبعه إلّا عليّ عليه السلام وله تسع سنين، وأنا ابن تسع سنين(.
وقد أجاب علماؤنا الأبرار بمثل ما ورد في هذه الروايات من أدلّة وحجج، فعن الشيخ المفيد رحمه الله أنّه قال: على أن ما اشتبه عليهم من جهة سنّ أبي جعفر عليه السلام ، فإنه بيِّن الفساد، وذلك أنّ كمال العقل لا يستنكر لحجج الله تعالى مع صغر السنّ قال الله سبحانه: ((قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)) فخبَّر عن المسيح عليه السلام ، بالكلام في المهد، وقال في قصّة يحيى عليه السلام ((وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)). وقد أجمع جمهور الشيعة مع سائر من خالفهم على أنّ رسول الله (ص) دعا عليّاً عليه السلام وهو صغير السنّ ولم يدع الصبيان غيره، وبَاهَل بالحسن والحسين عليه السلام ، وهما طفلان، ولم يُرَ مُبَاْهِلٌ قبله ولا بعده بَاهَل بالأطفال، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه من تخصيص الله تعالى حججه على ما شرحناه، بطل ما تعلّق به هؤلاء القوم).
هذا وعلّق بعض الأعلام على تولي الإمام الجواد (ع) منصب الإمامة في هذا السن بقوله : إن هذه الظاهرة التي ظهرت لأوّل مرّة في حياة الأئمّة في الإمام الجواد (ع) لو درسناها، بحساب الاحتمالات، لوجدنا أنّها وحدها كافية للاقتناع بحقّانية هذا الخطّ الذي كان يمثّله الإمام الجواد (ع) إذ كيف يمكن أن نفترض فرضاً آخرَ غير فرض الإمامة الواقعيّة في شخصٍ لا يزيد عمره على عشر سنين، ويتولّى زعامة هذه الطائفة في كلّ المجالات الروحيّة والفكريّة والفقهيّة والدينيّة.
وبهذا المجمل من الحديث ننتهي من الاجابة عن الشبهة التي أثيرت عن تولي الإمام الجواد (ع) منصب الامامة بعمره المبكر نظير ما حصل لانبياء الله ورسله، والتي لم تُثَرْ بالنسبة الى الامامين الهادي والمهدي (ع) الذين توليا الإمامة بعمر 6 سنوات.
هذا اولا.
وأما الحديث عن حياة الإمام الجواد (ع) فقد أجمع أهل العلم على أفضليته (ع) على معاصريه في جميع الكمالات وتفوقه عليهم علما وعملا وأخلاقا وتدينا وسلوكا حتى اعترف بذلك الاعداء قبل الاولياء ، وقد روى العلماء عنه الوانا ممتعة من الحكم والآداب التي تتعلق بمكارم الأخلاق وغيرها إلى جانب العلوم الأخرى، مما يتضح لنا بانه افضل انسان في زمنه وعصره واعجوبة دهره، وقد ذكر الشيخ الطبرسي في اعلام الورى إن ابا جعفر الجواد (ع) قد بلغ فضله من العلم والحكمة والأدب مع صغر سنه منزلة لم يساويه فيه احد، ولذا كان المأمون العباسي مشغوفا في حبه وتوقيره وتعظيمه لما رآه من علو رتبته وعظيم منزلته في جميع الفضائل.
كما تحدث المرحوم الشيخ القرشي في ج32 من موسوعة أهل البيت (ع) عن الحياة الثقافية في حياة الإمام الجواد (ع) التي ازدهرت فيها الحركات الثقافية ، وانتشر فيها العلم انتشاراً واسعاً ، وتأسّست المعاهد الدراسية ، وانتشرت المكاتب العامة ، وأقبل الناس بلهفة على طلب العلم في كل من يثرب والكوفة والبصرة وبغداد، وبوجوده (ع) كانت يثرب آنذاك من أهم المراكز العلمية لمدرسة أهل البيت (ع) ، حيث ضمّت عيون الفقهاء والرواة من الذين سهروا على تدوين أحاديث أئمة أهل البيت (ع).
ولعل قول الإمام الرضا (ع) (هذا المولود الذي لم يولد في الإسلام مثله مولود أعظم بركة على شيعتنا منه) كان يشير الى دور الإمام الجواد (ع) هذا العصر.
هذا ولم تقتصر العلوم التي تطرق اليها الامام (ع) على علوم الشريعة بل تعدتها إلى العلوم الطبيعية والكيمياء والفلك والرياضة والهندسة والسياسة والطب الذي كان له فيه باع طويل عبر شرح بعض النظريات العلمية والعلاجات الطبية، فكان (ع) ملجأ لكل ما يحتاجون إليه المسلمون في دينهم ودنياهم.
ولكن من المؤسف والمؤلم مع تحضر العالم والتطور الذي نشهده يوما بعد يوم لم تنعكس آثار هذه العلوم على المناهج الدراسية في المدارس والمعاهد الاسلامية وغيرها حتى يتعرف عليها ابنائنا و يتعلموا ويعلموا أن هذه العلوم والمعارف مصدرها هم الائمة (ع)، بينما نرى الأعداء يذكرون لهم الأقزام والنكرات والأسماء المجعولة التي لا وجود لها في التاريخ ليحجبوا بها هذه الوجوه الوضاءة و المشرقة من أهل بيت النبوة الذين يمثلون الهدى والاستقامة في هذا العالم بما يحملونه من علم ومعرفة، ولكن ((يريدون أن يطفئوا نور الله بافواههم ويابى الله الا ان يتم نوره ولو كره الكافرون)).
هذا وفي ختام حديثنا المقتضب عن حياة الإمام الجواد (ع) ليس لنا الا ان نرفع عزاءنا الى ولي الله الاعظم (عج) بشهادة جده الذي قضى مسموما غريبا ودفن بجنب جده الكاظم (ع) لتضم ظلامته إلى ظلامة جده ويفدا مسمومين يوم الحشر على عدل حكيم لينتقم من ظالميها يوم توضع الموازين.
ألا ياعين جودي للجواد وسحي أدمعا علق الفؤاد
فلم لا أبكي من أبكى الرسولا وأشجى الطهر حيدر والبتولا
اللهم صل على محمد بن علي الإمام التقي النقي الرضي المرضي وحجتك على من فوق الأرض ومن تحت الثرى صلاة كثيرة نامية زاكية مباركة متواصلة مترادفة متواترة كأفضل ما صليت على أحد من أوليائك.